نداء الملاحم فی روایة الصحراء عند ابراهیم الکونی

انبثقت الروایة، ضمن اشراط الحداثة، فنًّا یقطع مع الملاحم، ویعلن الانسان –الفرد- الها للازمنة الحدیثة؛ یصرف نظره عن السماء، ویجعل الدنیوی الارضی هدفا لعیونه، یصنع مصیره، ویدخل مع العالم فی صدام یرسم به تخوما فاصلة بین الذات والموضوع، ینصِّب – فیها- نفسه سیدا على الکون، متخذا من التاریخ زمنیة خطیة ساحقة لا تهادن ولا تعرف الالتفاف.. ومشرعا، على توالد الاسئلة، ابوابَ القول المرتکنة الى لغة نثریة موضوعیة تسعف على البحث والتقصی عن المبتغى العصی عن النوال..انها تقالید الروایة التی رفعها دون کیشوت، وجسدها روبنسون کریزو، ومثلتها السیدة بوفاری... ورسخت مع اعمال بلزاک والمدرسة الواقعیة...غیر ان الحنین الى النشید الملحمی القدیم عاود الروایة فی طورها هذا، على ما یبدو، فاصاخت له روایة الصحراء، بالخصوص، وجاشت به معزوفة دوزنت الالحان الغابرة، وبعثتها تصدح من جدید، مرجِّعة الاصداء الملحمیة المنطویة ..وکانت اعمال ابراهیم الکونی من ابرز من ترنم بالنغم المندثر، واعاد بعث الاجواء الملحمیة فی متون محسوبة على الروایة ؛ اعاد فیها الرجلَ الناضجَ – على حد تعبیر لوکاتش- الى طفولته الاولى، وارجع انسان الحضارة؛ المنقطع المتسوِّد، الى احضان الطبیعة الام، وجعل شرید الآلهة وطرید السماء یفیء الیها مسلما زمامه للقدر، قانعا بمبدا الخطیئة والتطهیر، ضمن فضاء منفلت من التحدیدات الجغرافیة والجیولوجیة، وزمان یدیر ظهره للتاریخ بمنطقه الکرونولوجی الحاسم متخذا له المطلق ابدیة لا تعرف النهایات ... کل هذا بلغة اتخذت الشعر جِلدا وتدثرت بالاستعارة لغة...سیحاول هذا البحث التقصی عن ظلال الملاحم الممتدة فی المتن الروائی الصحراوی عند ابراهیم الکونی؛ باحثا - فی هذا الابتعاث الملحمی – عن مخایل المشروع الجدید للروایة [ العربیة] التی تبحث لها عن اصول غیر برجوازیة، تشدها بها الى وتد الصحراء الذی فاضت منه- ذات صبى- ملاحم العرب الشعریة الخالدة وتدفقت نغما مختلفا فی اثیر الوجود.